المادة    
قال شيخ الإسلام: " فلا بد من هذه الثلاثة: العلم والرفق والصبر؛ العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده" فقبل أن تأمر وتنهى لابد أن تعلم أن هذا منكر أو معروف، وتنظر إلى المصلحة والمفسدة، وحال المأمور والمنهي.
وبعد ذلك لابد من الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد فقد الرفق عند كثير من الناس، لا لضعف في إيمانهم ولا لعدم حرصهم أو غيرتهم؛ بل لأن الإنسان يريد أن يوصل الحق إلى الناس بأسرع وقت دون أن يتحمل الرد والمجابهة، ومن قوته في الحق يظن أنه لابد أن يكون عنيفاً متعسفاً في إنكار المنكر، مع أن عنفه هذا لا يليق؛ لأن النفوس البشرية كالزجاج؛ كسرها لا يجبر، فلو أسأت إلى إنسان فلربما حمل عليك الدهر كله، حتى أخوك -الذي بينك وبينه رابطة الإيمان والمحبة- إذا نصحته بعنف فربما فرق الشيطان بينكما، فما بالك بمن هو فاعل لما نهى الله عنه أو تارك لما أمر الله به؟!
فلابد من الرفق، وهذا الرفق يعبر عنه بالأسلوب الحسن، ومن الرفق عرض الحجج بلطف وتودد، ولا يعني ذلك أن للخصم حجة، فإن خصوم السنة كلهم حجتهم داحضة، لكن من أجل أن تسمع ما عنده، وتحاوره كما تحاور الرسل مع أقوامهم، ومن ذلك ما قصه الله في مواضع كثيرة مما دار بين موسى وهارون عليهما السلام وبين الطاغية الجبار فرعون.
فلابد أن يكون الرفق مصاحباً للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والصبر يكون بعده، فإذا ما عرضت الأمر والنهي -بعد العلم به وبحال المأمور والمنهي- على أفضل صورة محققاً الرفق مع المدعو، فبعد ذلك وطن نفسك على الصبر؛ لأنك قد تؤذى، كما قال الله لنبيه: ((فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ))[القلم:48] فصاحب الحوت لم يصبر، وكان يعجب كيف يقول للناس: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وهم يعلمون صحة رسالته وأمانته وديانته، ومع ذلك يرفضون ذلك ولا يؤمنون به، فخرج مغاضباً، ولم يتحمل هذا الرد وهذه المجابهة، وركب في السفينة كي يبتعد عنهم.
يقول رحمه الله: "وإن كان كل من الثلاثة مستصحباً في هذه الأحوال" يعني: أن العلم والصبر والرفق لابد أن يستصحبها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قبل توجيه الأمر والنهي وأثناءه وبعده.
ثم يقول: "وليُعلم أن الأمر بهذه الخصال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجب صعوبة على كثير من النفوس؛ فيظن أنه بذلك يسقط عنه فيدعه"، وذلك لأن النفوس قد جبلت على الراحة والدعة والاستكانة؛ والطريق إلى النار محفوف بالشهوات، لكن ليس للإنسان أن يسلك طريق النار للإخلاد إلى الدعة أو للتمتع بالشهوات؛ ولذلك لا تنظر إلى الأمر والنهي من جهة حظك وحظ النفس، فربما كان حظ نفسك في أن تأمر بمعروف كبير وأن تنهى عن منكر كبير، فتتحمل أمراً عظيماً، لكن ليس فيه مصلحة الدعوة، وتفعله لأن نفسك تميل إليه، فبعض الناس يريد أن يموت بأي وسيلة، والموت أشق شيء على النفس، ولكنه يجد راحة في ذلك، ولو قيل له: تعلم العلم، لما صبر على تعلمه ساعة، والعلم ليس فيه شيء مما في الموت من المشقة، لكنه يميل إلى الموت ولا يميل إلى طلب العلم.
فليس كل ما أقبلت عليه النفس أو رغبت فيه واشتهته أمراً مطلوباً في الشرع؛ فوطن نفسك على ما تكره ما دام هو الحق الذي يرضي الله، ويقيم الدين، ويحقق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يقول: "فيظن أنه بذلك يسقط عنه، فيدعه؛ وذلك مما يضره أكثر مما يضره الأمر بدون هذه الخصال أو أقل" أي أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جملة أضر على الإنسان مما لو أنه أمر ونهى مع عدم توفر الخصال الثلاث.
  1. فقه التعامل مع المنكر

    يقول: "فإن ترك الأمر الواجب معصية، فالمنتقل من معصية إلى معصية أكبر منها كالمستجير من الرمضاء بالنار، والمنتقل من معصية إلى معصية كالمنتقل من دين باطل إلى دين باطل، وقد يكون الثاني شراً من الأول، وقد يكون دونه، وقد يكونان سواء" فمعصيتك في ترك الصبر أو في ترك الرفق قد تكون مثل أو أقل من معصيتك في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلية، وهذه قاعدة عامة: المنتقل من معصية إلى معصية كالمنتقل من دين باطل إلى دين باطل، قال: "فهكذا تجد المقصر في الأمر والنهي والمعتدي فيه قد يكون ذنب هذا أعظم، وقد يكون ذنب هذا أعظم، وقد يكونان سواء" وقد يقال: أيهما أعظم ذنباً: الذي لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، أو الذي اعتدى فيه فكانت المفسدة؟ فيقال: قد يكون الأول أعظم لتقصيره، وقد يكون الثاني أعظم لما نتج عنه من مفسدة لاعتدائه، وقد يكونان سواء، فلابد من الفقه في هذه المسألة.